**مجالات الوقف دعوية وتعليمية واجتماعية وصحية وعسكرية وإعلامية وإغاثية وعلمية واقتصادية
** الوقف من الأدوات الرئيسة التي يحوزها المجتمع وتساعده على الاعتماد على نفسه في إشباع حاجاته الأساسية
** االوقف يسهم في مكافحة الفقر وسد احتياجات المعوزين والشرائح الضعيفة لكونه صدقة جارية تخصص
** الوقف يحقق توازنًا اقتصاديا بين الناس ليس في الجيل الواحد فقط بل في الأجيال اللاحقة على إنشائه ويمنع الاحتكار
على امتداد الحضارة الإسلامية قام الوقف بدور بارز وملموس في عملية التنمية المستدامة اجتماعيا وبشريا وسياسيا وعلميا وتعليميا واقتصاديا، حيث كان يمثل أحد الأدوات الرئيسة التي تحقق فاعلية المجتمع وحيويته واستقلاليته.
الأمين العام الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت د.عبدالمحسن الجارالله الخرافي يبين في بحثه القيم الذي حمل عنوان "الوقف ودوره في تحقيق التنمية المستدامة" أن الوقف – لغويا- يعني السكون أوالحبس أوالمنع، ويطلق كذلك على الشيء الموقوف المصدر، وجمعه أوقاف، واصطلاحا يعرف بأنه" حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح" ،" أو على حد تعبير ابن قدامة: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة".
والوقف أنواع - كما يوضح د. الخرافي- قد يكون أهليًّا أو خيريًّا أو مشتركًا بينهما، أما الأهلي فهو ما كانت فيه المنفعة لأفراد معينين أو لذريتهم سواء من الأقرباء أو من الذرية أو غيرهم، وأما الوقف الخيري فهو ما جعلت فيه المنفعة لجهة بر أو أكثر وكل ما يكون الإنفاق عليه قربة لله تعالى، وأما الوقف المشترك فهو ما يجمع بين النوعين السابقين.
مشروعية الوقف
وحول مشروعية الوقف - يقول د. الخرافي- الوقف مشروع بالإجماع ، وقد دلت عليه آيات القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، كما دلت السنة النبوية على مشروعية الوقف واستحبابه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ، والصدقة الجارية محمولة على الوقف عند العلماء لأن غيرها من الصدقات لا يكون جاريًا، أي مستمرًا على الدوام، وكذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: "أصاب عمر بخيبر أرضاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه فكيف تأمرني به، قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" .
مجالات الوقف
وبيانا لمجالات الوقف وأنشطته المجتمعية أوضح د. الخرافي أن الوقف له مجالات كثيرة وأنشطة مجتمعية متنوعة منها المجالات الدعوية كإنشاء المساجد ورعايتها وكفالة احتياجات الدعاة والوعاظ، والمجالات التعليمية كإنشاء المدارس الإسلامية، والمكتبات العامة، وصرف رواتب المدرسين، ورعاية التلاميذ والطلاب، وكافة تكاليف العملية التعليمية الأخرى، والمجالات الاجتماعية كالوقف على رعاية الفقراء والأرامل واليتامى والمحتاجين وذوي الاحتياجات الخاصة، وإنشاء مؤسسات التكافل الاجتماعي ودعمها، والمجالات الصحية كإنشاء المستشفيات والصيدليات، ورعاية المرضى، وشراء الأجهزة الطبية، والمجالات العسكرية أو ما يطلق عليه الوقف على الجهاد في سبيل الله، مثل إنشاء مصانع لإنتاج الأسلحة والذخائر والآليات العسكرية، والثكنات العسكرية (تجهيز الغازي أو المجاهد).
وأضاف وأيضا المجالات الإعلامية الإسلامية مثل إنشاء القنوات التلفازية، أو دعم البرامج الإعلامية، والمواقع الإلكترونية، وغيرها من الوسائل الإعلامية التي يمكن صرف ريع الأوقاف عليها في خدمة الإسلام والمسلمين، والمجالات الإغاثية حيث يخصص ريع الأوقاف لإنشاء جمعيات أو مؤسسات تغيث المحتاجين إذا ما أصابتهم إحدى الكوارث الطبيعية، فتوفر ما يحتاجونه من خيم ومساكن وعلاجات وأدوية، وأدوات بناء، وهكذا، والمجالات العلمية وتتمثل فيما يطلق عليه الوقف العلمي على البحوث العلمية ورعاية العلماء، والمجالات الاقتصادية كإنشاء المصانع التي تسهم في توفير المتطلبات الضرورية للفقراء، أو تلك التي تسهم في تقدم الدول الإسلامية وردع أعدائهم، ومثل إنشاء المزارع واستصلاح الأراضي البور، وحفر الأبار واستخراج المياه الصالحة للزراعة، وغيرها من المجالات الأخرى.
الوقف والتنمية المستدامة
ويرصد د. الخرافي حزمة من إسهامات الوقف في تحقيق التنمية المستدامة التي تستفيد منها الأجيال الحالية واللاحقة، بل والسابقة التي أنشأت أوقافًا استمرت بعد وفاتهم، باعتبار أنه يحقق للأجيال السابقة رضا الله سبحانه وثوابه، فضلا عن حسن الذكر في الدنيا، وبيانها كالتالي:
أولا: تكوين رأس المال المجتمعي وتنميته حيث تميز الوقف بأنه لم يقتصر فقط على تكوين وتنمية رأس المال المادي من عقارات ومنقولات ونقود وخلافه، بل أسهم في تنمية رأس المال البشري، وبناء الإنسان فكريًا ومعرفيًا وصحيًا ووجدانيًا، من خلال الأوقاف التعليمية والصحية وغيرها من الأوقاف التي تؤسس لإنسان قادر على العمل بوعي وجد واجتهاد، ما أسهم في رفع الكفاية الانتاجية للعاملين. أما عن رأس المال المادي فقد كانت جُلَّ الأوقاف على أراض وعقارات فضلا عن السفن والمنقولات، وظل الوقف يدفع بها في عملية التنمية مع الحفاظ على ملكية أصولها لأصحابها، وكان ريع هذه الأوقاف لا يذهب للفقراء والمحتاجين وحدهم، بل كان يسهم كذلك في توسيع رقعة رأس المال حتى أن بعض الدول العربية كانت نصف أراضيها محلاً للوقف.
ثانيا : الإسهام في تشييد البنية الأساسية للدولة وتدعيمها، حيث انصبت معظم الأوقاف على تأسيس بنية اقتصادية قوية ، كبناء المستشفيات والمساجد والجامعات والخانات والأسواق والسكك الحديدية، وتمهيد الطرق للمسافرين، وغيرها من المرافق والمؤسسات لا يستغني عنها أي مجتمع في بلد ما، وكلها كانت تعتمد بشكل أساسي على الأوقاف سواء في إنشائها أو رعايتها وتنميتها، والإنفاق على من يتولون إدارتها، ومعظم هذه المنشآت تقوم بها حاليا الدولة الحديثة، والتي إذا اعتنت بالوقف سترفع عن كاهلها عبئًا كبيرًا لتتفرغ لمهامها الأساسية في الدفاع عن الوطن وحفظ أمنه، ولكن للأسف بدلا من أن تستفيد من الوقف حاربته في بعض المجتمعات لتفرض هيمنتها على المجتمع ومؤسساته وهياكله.
ثالثا: تفعيل دور المجتمع بالإسهام في العملية التنموية ، فقد كان الوقف من الأدوات الرئيسة التي يحوزها المجتمع وتساعده على الاعتماد على نفسه في إشباع حاجاته الأساسية دون أن يضعف فيسهل وقوعه تحت السيطرة الكاملة لسلطة الدولة، وكيف لا وقد امتلك المرافق الأساسية التي لا غنى له عنها فلا تستطيع سلطة في الداخل أو الخارج أن تحرمه منها أو أن تضغط عليه من خلالها، وبالمفهوم المعاصر، كان يحقق "التنمية المستقلة" النابعة لا التابعة، وهذا ما جعل المجتمع قويًا وحيويًا مقبلا على الإسهام في تنمية بلاده، إقبالا طوعيًا لا جبر فيه، كما جعله ينفق أمواله في وطنه ولا يهاجر بها خوف الاضطهاد أو المصادرة.
رابعا: الإسهام الطوعي في الموازنة العامة حيث كان الوقف وسيلة اقتصادية طوعية مهمة تصب في النهاية في الموازنة العامة للدولة دون جهد يذكر من جانبها على عكس الضرائب على سبيل المثال، والتي تفرض قصرًا على المستثمرين والتجار مما يؤدي أحيانًا إلى تهربهم من سدادها أو الهجرة من البلاد إذا ما زادت عن الحد المعقول، وقد ساعد على الإقبال على الوقف أنه عمل يراد به وجه الله، الأمر الذي يشجع الواقفين على الإسهام الطوعي في التنمية المجتمعية.
خامسا: توظيف العمالة وخفض نسبة البطالة من خلال قيام الوقف بدور أساسي في تشييد المرافق بل في تشغيلها وصيانتها ورعايتها وتوظيف العمالة ، وكذلك الأسواق والمحلات التي تنشأ بجوار المرافق المؤسسة من الأوقاف تكون هي الأخرى بابًا واسعًا لتوظيف العمالة، مما يجعل الوقف يسهم بقوة في مكافحة البطالة كواحدة من التحديات الكبرى.
سادسا: تنشيط الحركة الاقتصادية: وذلك عبر البيع والشراء والإيجارات، حيث إن معظم المرافق والأبنية التي يشيدها الوقف تنشأ حولها الأسواق وتنشط التجارة، بما فيها أسبلة المياه والمستشفيات والمدارس، كما يسهم الوقف إسهامًا مباشرًا في تعزيز الإنتاج الصناعي من خلال ما يؤسسه من منشآت وعقارات ومرافق اقتصادية وغيرها؛ فمثلا ينشط بناء المساجد صناعات مواد البناء، والزخرفة، والمفروشات، وبناء المستشفيات ينشط صناعة الأدوية والأجهزة الطبية ويوفر وظائف للأطباء والممرضين، كما يوسع الإنتاج الزراعي، من رقعة الأراضي المزروعة، وينشط حركة الإنتاج الزراعي ويوسع من دائرة المستفيدين منه، فضلا عن أنه يحقق الكفاية الغذائية ويسهم في تخفيض أسعار السلع الزراعية واستقرارها، وقد وصل الحال بالأراضي الزراعية الموقوفة إلى أن بلغت في بعض الدول ثلث الأراضي ، كما كان الوضع في مصر وتونس.
هذا الى جانب أن الوقف يسهم ايضا في حل مشكلة اكتناز الناس لأموالهم خشية تبديدها، ويدفعهم بإرادتهم الحرة إلى استثمارها فيما يحقق التنمية المجتمعية الشاملة لاسيما التنمية الاقتصادية.
سابعا: تحقيق التوازن الاقتصادي والعدالة في توزيع الثروات حيث يحقق الوقف توازنًا اقتصاديا بين الناس، ليس في الجيل الواحد فقط بل في الأجيال اللاحقة على إنشائه؛ ويمنع الوقف احتكار طائفة أو طبقة أو جيل معين للموارد الاقتصادية وللثروات، ومرد ذلك إلى أن الأصول الاقتصادية تظل قائمة ومدرة للأموال على مدى الأجيال، يمتلك أصحابها أصولها، ويوزع ريعها على الفقراء والمحتاجين والمستفيدين، كما يمنع احتكار أفراد قليلين للثروات، ويسهم في توزيع الثروات ليستفيد بها أكبر قدر ممكن من الناس، وليس كما هو قائم حاليًا في دول العالم المختلفة من تركز معظم الثروات في يد بعض الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، وفي بعض الدول، وفي داخل هذه الدول تتركز الثروات في يد عدد قليل من الأفراد، بينما يستطيع نظام الوقف أن ينشئ بجزء من هذه الأموال مرافق ومؤسسات يبقى نفعها للجميع وإن ظلت ملكيتها لأصحابها، إذ الأهم هو ريع المال ومنفعته بغض النظر عن بقاء ملكية أصله في يد أصحابه.
ثامنا: تحويل العمل التنموي الفردي إلى عمل مؤسسي حيث أسهم الوقف بصفة عامة في تحويل العمل الفردي إلى مؤسسي، ما أسهم بدوره في استمرارية العمل الخيري ودوامه، لارتباطه بقيم وأهداف مجردة وثابتة، لا بأشخاص زائلين، وساعد ذلك على تكوين خبرات في العمل الوقفي، وانتقال هذه الخبرات من جيل إلى جيل، في ظل عطاء متدفق في عملية التنمية، لا ينقطع بوفاة أحد، الأمر الذي يجعل الوقف أحد أهم الأنظمة التنموية مساهمة في مأسسة العمل الخيري.
تاسعا: توسيع مجالات إسهام العمل الخيري في التنمية المستدامة ذلك أن الوقف يتميز عن غيره من أوجه الإنفاق في العمل الخيري –كالزكاة مثلاً- بأنه غير محدود الزمان والمكان والقيمة والمصارف، بل هو منفتح تمامًا في أي وقت وبأي نسبة من المال ولو به كله فيمكن إنفاقه في عمل الخير بصفة عامة أيًا كانت، وهو بذلك يفتح الباب لكل محسن في أن يختار المجال الذي يوقف فيه ماله دون قيد أو شرط، طالما التزم بالضوابط الشرعية المعروفة لإنفاق المال، وهذا الأمر يصب في النهاية لصالح التنمية الشاملة، ويفتح قنوات لا حدود لها للإسهام في التنمية المستدامة.
عاشرا: الإسهام في تحقيق الاستقلال الاقتصادي اذ يسهم الوقف في تحقيق التنمية الذاتية المستقلة، ويقلل من الحاجة إلى الاقتراض الخارجي إذا ما أحسنت الاستفادة منه، وذلك لأنه يقدم بديلا وافيًا وكافيًا لصانع القرار الذي ليس عليه سوى التوجيه إلى ما تحتاجه البلاد من موارد ويدعو إلى الوقف فيها، ومن أمثلة ذلك أن تكون البلاد في حاجة إلى توطين التكنولوجيا بدلا من استيرادها، فتكون هذه هي المجالات الأرحب التي تدعم إنشاء هذه الأوقاف، فلا تكون تنمية المجتمع رهينة في يد دول قد تتناقض مصالحها مع نهضته، وهذا الأمر تعاني منه الآن غالبية الدول الإسلامية.
حادي عشر: الإسهام في تشييد المدن الجديدة وتطويرها: فقد أضفى الوقف على المدن الإسلامية طابعًا خاصًا يميزه عن غيره، فوقف المسجد أو وقف الأبار يقيم حياة كاملة حوله، فينشئ المستشفى، والسوق، وحولهما المساكن، حتى أن الوقف أنشأ مدنًا كاملة، أو أسهم في تطوير مدن موجودة فعلا، بما تحتويه من إمكانات تفتح الباب أمام نشاط تجاري وصناعي وزراعي يسهم في النهاية التنمية الاقتصادية في البلاد الإسلامية، ومن ذلك أن المنشآت الوقفية كانت وراء إنشاء خمسين مدينة جديدة في دول البلقان خلال العصر العثماني مثل بلغراد، وسراييفو، بينما نشأت في بلاد الشام، خلال العصر العثماني كذلك، عشرة مدن جديدة مستندة إلى المنشآت الوقفية مثل القنيطرة، إدلب، خان يونس.
ثاني عشر: الإسهام في مكافحة الفقر وسد احتياجات المعوزين والشرائح الضعيفة لكون الوقف عبارة عن صدقة جارية تخصص للفقراء والمحتاجين، لا سيما المرضى وطلبة العلم الذين لا يجدون ما ينفقون به على احتياجاتهم، وهو الأمر الذي يسهم في تخفيض نسبة الفقراء أو على الأقل إشباع حاجاتهم الأساسية، فضلا عن مساهمته في سد عوز الشرائح الضعيفة الأخرى كالنساء واليتامى وذوي الاحتياجات الخاصة.